عن نصر حامد أبو زيد [1943-2010]

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
20/07/2010 06:00 AM
GMT



في زمن التراجع الفكري والسياسي المتصاعد في المجتمعات العربية، وفي زمن يزحف فيه العقل الخرافي ويحتل منبر الاعلام والمنتديات الثقافية، يفتقد الفكر العربي واحدا من ابرز مفكريه التنويريين الذين كرّسوا حياتهم للدفاع عن العقلانية وحرية الفكر والاجتهاد. انه الكاتب المصري نصر حامد ابو زيد، الذي لقب بـ"الشهيد الحي". دفع ابو زيد ثمنا غاليا لدراساته حول النص الديني بسبب اعتماده منطقاً وتوجهاً مخالفين للتقليد السائد. اقيمت الدنيا عليه ولم تقعد حتى الان، وسخّر القضاء المصري نفسه في تلفيق التهم ضده بالردة والالحاد، فأصدر قرارا تعسفيا بتفريقه عن زوجته. وضع على لائحة المطلوب تصفيتهم جسديا بعدما افتى رجال دين ينتمون الى ازمان القرون الوسطى ومحاكم التفتيش بإهدار دمه.

سلطة العقل في مواجهة سلطة النص

تركّز قسم كبير من عمل نصر حامد أبو زيد على قراءة النص الديني من جميع جوانبه التاريخية واللغوية والأهداف الدينية التي سعى إليها، وكان سلاحه في مقاربة هذا النص اللجوء إلى العقل ليمكن عبره وحده فصل الأمور المتداخلة بين ما هو ديني وما هو دنيوي.
لذلك احتلت قراءته لمفاصل الخطاب الديني أولوية في مقاربة سائر المسائل التي يفرزها هذا النص على صعيدي النظرية والممارسة. يحدد أبو زيد في كتابه "نقد الخطاب الديني"، هذه المفاصل بأربعة. يتعلق الأول بمقولة "التوحيد بين الفكر الديني وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع" (ص14)، حيث يشير إلى إدراك مبكر لدى المسلمين أن "للنصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، ولا تتعلق بها فعالية النصوص" (ص28).
سعى الخطاب الديني إلى التوحيد بطريقة آلية بين النص الديني وبين قراءاته وفهمه له. بهذا التوحيد لم يعد الخطاب الديني يقوم "بإلغاء المسافة المعرفية بين "الذات" و"الموضوع" فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء ضمني بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص" (ص28). تكمن خطورة هذه الوجهة في القراءة في كون الخطاب الديني المعاصر يتحوّل في اتجاه اعتبار نفسه "متحدّثا باسم الله"، بكلّ ما يعنيه ذلك من تسليط هذا الخطاب على الفكر والاجتهاد واستخدام العقل في تحكيمه سلطانا على صحّة هذه القضية أو تلك.
يتناول المفصل الثاني مسألة "تفسير الظواهر كلها بردّها جميعا إلى مبدأ علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية" (ص14). تسود الخطاب الديني مقولة عن وجود إسلام واحد لا يبلغه إلاّ العلماء، تحوي هذه المقولة أبعادا خطيرة "تهدد المجتمع، وتكاد تشل فاعلية "العقل" في شؤون الحياة والواقع. ويعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني العادي، فيوظفها على أساس أنها إحدى مسلمات العقيدة التي لا تناقش. وإذا كانت كل العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أو مبدأ أول – هو الله في الإسلام- فإن الخطاب الديني - لا العقيدة - هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، بردّها جميعا إلى المبدأ الأول. وفي هذا الإحلال يتم تلقائيا نفي الإنسان، كما يتم إلغاء "القوانين" الطبيعية والاجتماعية ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني أو من سلطة العلماء" (ص32).
ترتبت على هذه المقولة نتائج خطيرة لدى وضعها موضع التطبيق وخصوصاً منها نظرية "الحاكمية الإلهية" نقيضا لحاكمية البشر التي ازدهرت لدى الحركات الإسلامية في العالم العربي والآسيوي، خلال القرن الماضي، والتي عادت تتجدد بقوّة مع الإسلام الأصولي في شكله المتطرف وخصوصا في فكر تنظيم "القاعدة" وغيرها من الحركات الدينية السياسية المشابهة.
يقوم المفصل الثالث في الخطاب الديني على "الاعتماد على سلطة "السلف" أو "التراث"، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية - وهي نصوص ثانوية - إلى أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل - في كثير من الأحوال- عن النصوص الأصلية" (ص14). يحوّل الخطاب الديني أقوال السلف واجتهاداتهم نصوصاً مقدسة يصعب فيها الاجتهاد، بل أن الأسوأ يكون عندما يوحّد الخطاب بين "اجتهاداته" نفسه وبين الدين.
يشير أبو زيد إلى تاريخ تبلور الخطاب الديني في محدداته الرئيسية فيعيده إلى الأمويين- لا الخوارج- الذين طرحوا "مفهوم "الحاكمية" بكل ما يشتمل عليه من دعوى فاعلية النصوص في مجال الخصومة السياسية وخلافات المصالح، وذلك حين استجاب معاوية نصيحة ابن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنّة السيوف داعين إلى الاحتكام إلى كتاب الله" (ص38). وهو أسلوب ظل الحاكم المفتقر إلى الشرعية يلجأ إليه في كل التاريخ العربي والإسلامي حتى الزمن الراهن.
الأخطر في الخطاب الديني الموروث من الزمن الأموي والمستمر في جوهر طرحه، هو اعتماد مقولة "الجبر" التي تعيد كل ما يحدث في العالم، بما فيها أفعال الإنسان، إلى قدرة الله وسلطته الشاملة، ليتحول هذا المبدأ قانوناً عاماً مع تطور الفقه الإسلامي وخصوصا على يد الأشعري الذي أوصلت أطروحاته إلى إهدار قانون "السببية".
في المقابل يتجاهل الخطاب الديني جانبا أساسيا من التراث، هو المتعلق بعلم الكلام وما قدمه على صعيد قراءة النص الديني والجدال حوله، وخصوصاً ما قالت به المعتزلة وأقطابها من تفسير تطرقوا فيه إلى الجوانب الدينية وغير الدينية استنادا إلى المنطق القائم على العقل. لم يكتف الخطاب الديني بتجاهل التيارات العقلانية في التراث بل عمد إلى تسليط الهجوم عليها ونبذها وتصنيفها في إطار الهرطقة والزندقة، مقابل إضفاء القدسية على نصوصه، وهي أمور ترتبت عليها نتائج خطيرة في إعطاء المشروعية لاضطهاد أصحاب النزعات العقلانية في التراث العربي والإسلامي.
يتناول المفصل الرابع في الخطاب الديني قضية "اليقين الذهني والحسم الفكري "القطعي"، ورفض كل خلاف فكري، إلاّ إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول" (ص14). لا يتحمل الخطاب الديني الخلافات الجذرية انطلاقا من كونه "متشبّعا" بعقيدة امتلاكه الحقيقة المطلقة واستيلائه على كل التفسيرات الخاصة بالدين والحياة. "يصر الخطاب الديني على أنه جهة الاختصاص الوحيدة، فلا قيمة لأيّ بيان أو حكم ما لم يكن مستندا إلى المفاهيم الإسلامية الأصلية، وإلى النصوص والقواعد الشرعية" (ص44).
يترتب على هذا الإلزام إعطاء مشروعية لما تقوم به حركات التطرف الإسلامي من تشدد وقمع، خصوصا على مستوى السلوك الحياتي، حيث يرى المتطرف أن أعماله يسندها النص الديني وفتاوى العلماء، مما يعطيه "شحنة إيمانية" يرى بموجبها أنه ينفذ أوامر الله ورسوله.
أمّا المفصل الخامس فهو المتصل بـ"إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل، يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة، وعصر الخلافة التركية العثمانية" (ص14). تتجلى هذه الآلية في مجمل الخطاب الديني ومعه منطلقاته الأساسية.
فالتوحيد بين الفكر والدين يوصل مباشرة إلى التوحيد بين الإنساني والإلهي، ويدفع بالخطاب الديني إلى إهدار البعد التاريخي الذي يفصله عن زمان النص، وصولا إلى إدعاء القدرة على معرفة القصد الإلهي. يشير أبو زيد إلى هذه المسألة بالقول: "يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكان صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث، واعتماد نصوصهم بوصفها تتمتع بقداسة النصوص الأولية، تكثيفا لآلية إهدار البعد التاريخي، وكلتا الآليتين تساهم في تعميق اغتراب الإنسان والتستر على مشكلات الواقع الفعلية في الخطاب الديني. من هذه الزاوية نلمح التفاعل بين هذه الآلية وبين الآلية الثانية: "رد الظواهر إلى مبدأ واحد"، وخصوصاً في ما يرتبط بتفسير الظواهر الاجتماعية. إن رد كل أزمة من أزمات الواقع في المجتمعات الإسلامية – بل وكل أزمات البشرية- إلى "البعد عن منهج الله"، هو في الحقيقة عجز عن التعامل مع الحقائق التاريخية، وإلقاؤها في دائرة المطلق والغيبي. النتيجة الحتمية لمثل هذا المنهج، تأبيد الواقع وتعميق اغتراب الإنسان فيه، والوقوف جنبا إلى جنب مع التخلف ضد قوى التقدم، تناقضا مع ظاهر الخطاب الذي يبدو ساعيا للإصلاح والتغيير، ومناديا بالتقدم والتطوير" (ص53).


التجديد في قراءة النص الديني

كان أبرز ما قدّمه أبو زيد من جديد، وأثار عليه نقمة المؤسسة الدينية، الدراسات المتعلقة بالنص الديني وخصوصا منها قراءة القرآن وكيفية فهمه، بما يناقض المفهوم التقليدي السائد. اعتبر أبو زيد أن الفكر البشري بما فيه الفكر الديني إنما هو إنتاج مجمل الظروف التاريخية المتضمنة جملة عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية لعصر محدد وفي مرحلة تاريخية محددة أيضا.
يشير المفكر إلى هذا المدخل المنهجي الذي يحكم قراءته للنص بالقول في كتابه "نقد الخطاب الديني": "ليس الفكر الديني بمعزل عن القوانين التي تحكم حركة الفكر البشري عموما، ذلك أنه لا يكتسب من موضوعه-الدين- قداسته وإطلاقه. ولا بد هنا من التمييز والفصل بين "الدين"، والفكر الديني، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخياً، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها. ومن الطبيعي أن تختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعي أيضا أن تختلف من بيئة - واقع اجتماعي تاريخي جغرافي عرقي محدد - إلى بيئة في إطار بعينه، وأن تتعدد الاجتهادات بالقدر نفسه من مفكر إلى مفكر داخل البيئة المعينة" (ص185).
يوضح أبو زيد منطق أطروحته مفسراً منهجه بأن "الوعي التاريخي العلمي بالنصوص الدينية يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديما وحديثاً، ويعتمد على إنجازات العلوم اللغوية خاصة في مجال دراسة النصوص" (ص189). لذا تبدو مشكلة الفكر الديني عائدة إلى كونه ينطلق من تصورات عقائدية ومذهبية عن الإله وطبيعته مقارنةً بالطبيعة الإنسانية، فيذهب هذا الفكر إلى معالجة هذه النصوص الدينية وقراءتها، "جاعلا إياها تنطق بتلك التصورات والعقائد"، مما يعني فرض التفسير الإنساني التاريخي من الخارج، وهو تفسير يسعى الفكر الديني الى "أن يلبسه لباسا ميتافيزيقيا ليضفي عليه طابع الأبدية والسرمدية في آن واحد" (ص190).
انطلاقا من هذه المقدمات، تقوم الأطروحة المركزية لأبو زيد على اعتبار النصوص الدينية "ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية"، أي أنها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة و"تم إنتاجها طبقاً لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي" (ص193). يذهب أبو زيد إلى أن الأصل الإلهي لا يحجب إمكان البحث فيها، بل يفرض ضرورة درسها وتحليلها، وأن هذا الدرس لا يتطلب منهجيات خاصة تتناسب مع طبيعتها الإلهية.
"إن القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب بعض البشر طاقات خاصة تمكنهم من الفهم، وهذا بالضبط ما يقوله المتصوفة. هكذا تتحول النصوص الدينية نصوصاً مستغلقة على فهم الإنسان العادي – مقصد الوحي وغايته- وتصبح شفرة إلهية لا تحلّها إلاّ قوة إلهية خاصة. وهكذا يبدو وكأن الله يكلم نفسه ويناجي ذاته، وتنتفي عن النصوص الدينية صفات "الرسالة" و"البلاغ" و"الهداية" و"النور"... وإذا كنّا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية، فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي إيديولوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر، بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وإلى حقائق النصوص ذاتها. وفي مثل هذا الطرح يكون الاستناد إلى الموقف الاعتزالي التراثي وما يطرحه من حدوث النص وخلقه ليس استنادا تأسيسيا، بمعنى أن الموقف الاعتزالي رغم أهميته التاريخية يظل موقفا تراثيا لا يؤسس – وحده - وعينا العلمي بطبيعة النصوص الدينية" (ص197-198). من هنا يمكن القول إنه إذا ما اعتبرنا النصوص الدينية نصوصا بشرية بحكم انتمائها إلى ثقافة ولغة في مرحلة تاريخية معينة، يصبح من لزوم الأمر أن "تمثّل اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التأويل والتفسير، وتدخل في مرجعية التفسير والتأويل كل علوم القرآن، وهي علوم نقلية تتضمن كثيراً من الحقائق المرتبطة بالنصوص، بعد إخضاعها لأدوات الفحص والتوثيق النقدية" (ص198).
استتباعا لهذه المسألة، يمكن النظر إلى خطورة الأفكار الراسخة التي تعتبر أن النص الديني التأسيسي، أي القرآن، هو نص أزلي وأبدي، وهو صفة من صفات الذات الإلهية. ولكون الذات الإلهية تتمتع بالأزلية، يصبح كل ما يصدر عنها يحمل الصفات ذاتها، وبذلك يصبح القول بأن القرآن الصادر عنها مخلوق، إنما يقع في باب الكفر بهذه الذات. يشير أبو زيد في كتابه "النص، السلطة، الحقيقة" إلى هذه القضية "الخطيرة" بالقول: "والحقيقة أن مسألة طبيعة القرآن - هل هو قديم أم محدث - مسألة خلافية قديمة بين المفكرين المسلمين. وقد ذهب المعتزلة مثلا إلى أن القرآن محدث مخلوق لأنه ليس صفة من صفات الذات الإلهية القديمة. القرآن كلام الله والكلام فعل وليس صفة، فهو من هذه الزاوية ينتمي إلى مجال "صفات الأفعال" الإلهية ولا ينتمي إلى مجال "صفات الذات"، والفارق بين المجالين عند المعتزلة أن مجال صفات الأفعال مجال يمثل المنطقة المشتركة بين الله والعالم، في حين أن مجال "صفات الذات" يمثل منطقة التفرد والخصوصية للوجود الإلهي في ذاته، أي بصرف النظر عن العالم، أي قبل وجود العالم وقبل خلقه من العدم" (ص68).


القراءة العلمية التاريخية للتراث

أولى أبو زيد قضية التراث العربي والإسلامي اهتماما اتخذ بعده من خلال النظرة التقليدية والسلفية المفروضة في قراءة هذا التراث. يتساءل عن السبب الذي يقرن التراث بالدين عند التطرق إليه، ولماذا يقدّم لنا هذا التراث مجلببا بالمهابة من الاقتراب إليه والتعرض إلى نصوصه على رغم انتسابه إلى الماضي العريق؟ يقول في كتاب "النص، السلطة، الحقيقة": "لماذا يلح علينا هاجس "التراث" هذا الإلحاح المؤرق، والذي يكاد يجعلنا أمة فريدة في تعلقها بحبال الماضي كلما حزّ بها أمر من الأمور أو مرّت بأزمة من الأزمات وما أكثرها؟ فإذا كان التقدم يشير إلى المستقبل ويدل على الحركة، فإن التراث يشير إلى الماضي ويدل على السكون والخمود، وكأنّ العربي قد كتب عليه دون البشر كافة أن تسير قدماه إلى الأمام بينما يلتفت رأسه إلى الخلف، فلا هو يحقق التقدم ولا يقنع بالحياة التي ورثها عن الأسلاف. ويظل المشكل ماثلا: كيف نحقق التقدم دون أن نتخلى عن التراث" (ص13).
هكذا تحول التراث على امتداد التاريخ العربي والإسلامي صنواً للإسلام وجرى اختزالهما في مفاهيم موحدة، أي أن التراث تحول عمليا هوية للمسلمين سيؤدي التخلي عنه إلى وقوعهم في العدمية والضياع. أفضى هذا الوضع إلى شبه استحالة للتدقيق بهذا التراث وغربلته لتعيين ما تقادمه الزمن، تالياً وضعه خارج الاستخدام، وما بقي حيا من هذا التراث الذي يمكن الإفادة منه في عصرنا الراهن، مما يعني لدى أبو زيد ضرورة "إنجاز وعي علمي بالتراث يضعه في سياقه التاريخي، ويدرك إنجازاته التي أضيفت الى رصيد الحضارة الإنسانية، مفرقا بينها وبين تلك الإنجازات المرهونة بسياقها الزماني والمكاني" (ص14).
ستفتقد الثقافة العربية العقلانية بغياب أبو زيد واحدا من المفكرين القلائل جدا الذين رفضوا التراجع عن اطروحاتهم وافكارهم، ولم ترهبه "احكام الاعدام" التي اصدرها الاصوليون والسلفيون في حقه، والتي تواطأت المؤسسة الدينية الرسمية في مصر مع هذه الاحكام وبررتها من خلال الاحكام القضائية التي تسببت في نفيه من مصر الى اوروبا. لكن التراث الذي تركه ابو زيد سيظل منارة تضيء السبيل الى كل متنور وهادف الى فهم النص الديني بعيدا من الدوغمائية، ولكل ساع الى ايمان قائم على العقل.
خالد غزال